ينتقل الزائر حين دخوله إلى مبنى المدرسة السورية في مدينة مرسين التركية، وهي الأولى من نوعها لجهة تخصصها باستيعاب اللاجئين الهاربين من قمع قوات النظام، إلى سوريا على الفور.
فهناك، يشعر المرء أنه عبر الحدود إلى الوطن منذ اللحظة التي تحييه فيها موظفة الاستقبال، عند مدخل البناء المؤلف من أربعة طوابق، حتى وهو يصعد الدرجات ليدخل «غرفة المدير»، اللهم سوى أنها لا تحتوي على «مدفأة الطاسة» الصغيرة التي اعتاد الطلاب السوريون من جيلي الثمانينات والتسعينات على رؤيتها تكاد تنفجر داخل صفوفهم من زخم نيرانها، متعجبين من قدرتها على تحمل الحرارة، ومن أنفسهم على استمرار تحملهم المناهج الخشبية الموجهة.
المكان أشبه بخلية نحل منظمة تؤخذ فيه الأمور بجدية بالغة، وهو ما قد لا يتوقعه كثيرون عند الحديث عن مدرسة أعدت على عجل للنازحين.
يدق طالب يرغب في التسجيل الباب بهدوء ليسأل بأدب عن كيفية التسجيل، فيرشده المدير بصرامة تخلو من الفوقية، التي اعتاد الطلاب السوريون على تلقيها من الكوادر التعليمية البعثية، إلى أمانة السر لعمل اللازم.
الصعود إلى قاعات التدريس يشبه عمل ساعي البريد. ينتهز طلاب فرصة دخول وسيلة إعلامية إلى صفهم ليتدافعوا ملوحين بإشارة النصر، في رسالة تحدٍ واضحة لمن يسعى إلى كسر إرادتهم.
ويسارع طلاب آخرون إلى الوقوف احتراماً حينما يفتح الباب أو تؤشر المعلمة إلى ذلك، كرسالة أخرى على أن الانضباط يبقى سمة مميزة للشعب السوري، رغم أنه يواجه أسوأ حقب الفوضى والدمار.
ومع أن غلبة العنصر الأنثوي على الكادر التدريسي أمر ملحوظ، إلا أن الجنسين يتقاسمان نسبة التلاميذ تقريباً.
مشروع وهدف
ويؤكد أحد القيميْن على المدرسة: زياد منلا، والذي يساعده في تدبير أمورها زميله محمد زين، أن المدرسة السورية في مرسين «مشروع متكامل خيري غير ربحي، هدفه استيعاب الطلاب السوريين في المدينة وضواحيها، وحتى المناطق المحيطة بها، لتدريسهم مجاناً بما يتضمن ذلك من توفير أدوات قرطاسية وحقائب وكتب ولباس مدرسي بدون رسوم، في وقت يتم دفع رواتب للكادر التدريسي والإداري».
ويشرح لـ«البيان»: «بعد أن انتشر اسم المدرسة، توافد إلينا طلاب من مدن تركية أخرى كغازي عنتاب وأنطاكية والريحانية وأنقرة; حتى أن بعض الطلاب السوريين الذين كانوا في مصر، انتقلوا إلى مرسين ليباشروا الدراسة فيها».
وينوه إلى أن «الطاقة الاستيعابية للمدرسة تقدر بحوالي 1300 طالب وطالبة لمختلف المراحل من الصف الأول مستمع إلى السادس بفترة دوام صباحية تبدأ من 7 صباحاً إلى 12 ظهراً، بالإضافة إلى دوام مسائي يبدأ من 12:15 إلى 5:15 مساءً للمرحلتين الإعدادية والثانوية، على مدى ستة أيام اسبوعياً ما عدا الأحد».
وبشأن المناهج المعتمدة، يفيد منلا أنها «نفسها التي تدرس في سوريا حالياً باستثناء مادة القومية التي استبدلت بمادة اللغة التركية»، مردفاً أن هناك مدرسين أتراكا يعلمون التركية لمراحل الابتدائية، في حين سينتدب نظراؤهم قريباً للمرحلتين الإعدادية والثانوية، بعد افتتاح المدرسة رسمياً مطلع الشهر المقبل، حيث وجهت دعوة إلى مسؤولين أتراك والهيئة التعليمية في الجامعة العربية لحضور الافتتاح.
ويستطرد منلا قائلاً إنه «تم استبعاد بعض الدروس المدسوسة على المناهج التي تمجد النظام ورأسه، دون استبدالها بأخرى تؤيد الثورة بسبب الحاجة في هذه الحالة إلى لجان وهيئات مشرفة على تعديل المناهج».
ويكشف أن شهادة كل تلميذ ينهي مرحلته الدراسية، ستصدق بشكل رسمي من الجهات التركية المختصة ليتم الاعتراف بها لاحقاً إن أراد الاستمرار أو حين العودة إلى سوريا.
توجهات وصدام
ورداً على سؤال لـ«البيان» فيما إذا كانت المدرسة تميل أكثر إلى الثورة، يوضح منلا أن «كافة السوريين ينظرون إلى المستقبل لا إلى الوراء»، مضيفاً أن «إدارة المدرسة لا تسأل الطالب أو المدرس أو الإداري عن توجهاته السياسية أو الدينية أو الحزبية، فهي لكافة السوريين من مختلف الطوائف والانتماءات، حيث يقبل المعلم بحسب كفاءته ومحصله العلمي».
ويجيب بخصوص تأثير توجهات القيمين على المدرسة على أفكار الطلاب، بالقول إن «الهدف من المدرسة إكمال العملية التعليمية للطلاب وإبعاهم عن السياسة قدر الإمكان»، مشيراً إلى أنه «من الممكن أن يكون لدى أي شخص فيها توجهات تؤيد هذه الجهة أو تلك، لكننا خارج هذا الإطار في المدرسة».
وفيما إذا حصلت حالات صدام بين الطلاب أو المعلمين، يلفت منلا إلى أن «أي مشروع جديد يواجه بعض المشاكل التي يتم حلها بطريقة تربوية وأكاديمية أولاً بأول».
مشروعات إضافية
ويذكر منلا لـ«البيان» أن المشروع ككل يدعى «التجمع السوري في مدينة مرسين»، وأولى منشآته فحسب هي المدرسة.
أما المنشآت التالية، فستفتتح بالتوالي قبل نهاية العام الجاري في نفس مبنى المدرسة المؤلف من أربعة طوابق، وهي تشمل مكتب توظيف يشرف على تأمين فرص عمل للسوريين المقيمين في مرسين في الشركات والمصانع التركية «طبقاً لعلاقاتنا الشخصية وارتباطاتنا مع جهات تركية تعهدت بالمساعدة على تأمين فرص عمل».
أما المكتب الثاني، فهو للإغاثة بهدف معاونة الأسر السورية الفقيرة في مرسين، بحيث يتم تخصيص معونات شهرية مادية أو عينية إليهم.
وفضلاً عن ذلك، سيصار إلى افتتاح مستوصف يضم الكوادر الطبية السورية في المدينة، «علماً أن الإحصائيات الأولية تفيد بوجود نحو 200 طبيب سوري في مرسين، سيوزعون على كافة أنواع التخصصات ليقدموا العلاج للمرض بالمجان». كما سيتم إطلاق مكتب قانوني لتسهيل إجراءات إقامة السوريين وحل مشاكلهم القانونية.
مصادر ومساعدات
وبشأن مصادر التمويل، يلفت منلا لـ«البيان» إنه «سوري خالص قائم عليه مجموعة من رجال الأعمال، يبلغ عددهم قرابة 25، قسم منهم ما زال في الداخل، حيث تم رصد المبالغ المخصصة لكي ينشأ على أرض الواقع».
وبخصوص تقديم السلطات التركية أي مساعدات مالية، يشدد المنلا على أن مساعداتها «لوجستية فقط، تتمثل في دورها الرعاية والإشراف والمتابعة»، موضحاً أن أي خطوة يتم الإقدام عليها «تكون بالتنسيق معها».
وكشف أن بناء المدرسة تم استئجاره بعقد لمدة ثلاثة أعوام، نافياً وجود أي اتصالات مع المعارضة السورية أو محاولات لذلك من أجل دعم مشاريع التجمع، حيث اعتبر أنهم لا ينتظرون مساعدات المعارضة.
البرد.. عدو اللاجئين الجديد
يقول آلاف اللاجئين السوريين الذين تكدسوا داخل خيامهم البلاستيكية بمخيم متنقل بعدما فروا من قصف قوات الرئيس السوري بشار الأسد إنهم يواجهون عدوا جديدا هو «البرد الذي يقتلنا».
وقالت لاجئة تدعى وعد اورفلي، 27 عاما، لم تكن ترتدي سوى ثوب وحجاب وردي رغم انهمار المطر: «الوضع هنا أسوأ حتى من العيش في بلدنا».
وقالت وعد المصابة بقروح في الفم: «أنا حامل في الشهر الثالث وأنزف». وأضافت أن زوجها مصاب بحصى في الكلى، لكن كلاهما لم يتمكنا من الحصول على الرعاية الصحية في المخيم.
وفاحت رائحة عفنة من الخيام مع تسلل مياه الأمطار إليها وابتلال الأغطية والملابس. ومع عدم وجود كهرباء في المخيم، كان الأطفال يرتعشون من البرد، حيث كان كثيرون منهم يرتدون قطعة ملابس واحدة فقط.
واشتكت أمهات في المخيم من أنهن يحصلن على كمية قليلة من الطعام. وذكرن أن الإفطار لم يوزع حتى الساعة 12 ظهرا. ومع عدم وجود ماء سرت رائحة كريهة من دورات المياه قرب المسجد بسبب القمامة والصرف الصحي. ويحاول بعض اللاجئين في المخيم ايجاد وسيلة للحياة وسط هذا البؤس. وأقام البعض أكشاكا لبيع السجائر، فيما يركض الأطفال بين الخيام يخطفون الحلوى والشوكولاتة.
وتدير مجموعة إغاثة تركية تدعى «آي.اتش.اتش» المخيم. وقال منسق المجموعة في باب السلامة شوكت جوكمان إن المخيم يضم نحو 870 خيمة وستة آلاف شخص، وإن نحو 200 شخص يفدون عليه يوميا.
وأضاف أن المجموعة لم تكن مسؤولة عن المخيم بشكل كامل حتى وقت قريب، مشيرا الى انه تم توزيع نحو خمسة آلاف حذاء على الأطفال. وذكر أن الأوضاع الصعبة مثل عدم وجود مياه ولا كهرباء «جعلت إعداد الطعام وتوزيعه ينطوي على تحد من نوع خاص».
تهديد العلويين
نفى زياد منلا في حديثه مع «البيان» الأحاديث عن وجود تهديد من قبل علويي مدينة مرسين تجاه المدرسة وكوادرها وطلابها. وقال إن «أغلبية الشعب التركي ترحب بالمدرسة»، نافياً أيضاً أن يكونوا طلبوا حماية من الأجهزة التركية المختصة.