عطاء ونور دبي يعمان بلا تمييز (جرافيك)
هناك علاقة تلازم بين الفقر والجهل والمرض، فأينما حل الفقر، تفشى الجهل وانتشر المرض، وحينما يجتمع هذا الثالوث المدمر في بلد ما، يتحول الشغل الشاغل للإنسان تأمين حاجته من الغذاء والدواء ليواصل مسيرته في الحياة. وحينما يفشل في توفير قوت يومه يتعطل تفكيره، ويصبح غير قادر على العطاء ولا المساهمة في عملية التنمية. وأصل الأمراض وعلة العلل هي الأمية والجهل، كما يقال، فالجهل أبو الشقاء والأمية أمه، والأمة الجاهلة هي تماماً كالإنسان الأصم والأبكم والأعمى، لا تسمع ما يقال، ولا تعرف ما تقول، ولا تبصر ما قد قيل، وتصبح بمعزل عن الدنيا وأبنائها وعن الحياة وأحوالها وعن مجاراة رياح التغيير ومواكبة التطور والتقدم والرقي.
الألفية الثالثة لم تحمل الخير للكثير من الدول، رغم أننا نعيش في عصر التكنولوجيا والثورة المعلوماتية، فما زال هناك نحو 69 مليون شخص، 60 % منهم من الأطفال، في قارتي آسيا وإفريقيا، لا يتلقون تعليمهم الأساسي بسبب الفقر وعدم وجود المدارس التعليمية وفق تقديرات المؤسسات العالمية. بل إن الدكتورة هيفاء ماضي مديرة تعزيز الصحة في المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية تدق ناقوس الخطر: هناك 37 مليون شخص يعانون من إعاقات بصرية، ناجمة عن أمراض العيون المختلفة، أو عيوب انعكاسية لم يتم تصحيحها، وإن من بين هؤلاء هناك 3 .5 ملايين حالة إصابة بالعمى، يتركز 90 % منها في البلدان ذات الدخل المنخفض، وإن 80 % من حالات العمى يمكن تجنبها في حال قدم العالم المتحضر الذي يدعي الديمقراطية ويتشدق بالعدل والمساواة، ما يسد رمق هؤلاء الفقراء، ويوفر لهم مقومات التعليم الأساسية، ومراكز الرعاية الصحية الأولية.
من دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، انطلقت المبادرة والإشارة، بالاستجابة الفورية لنداء الجمعيات والمنظمات الدولية، فقد أطلق سموه في عام 2007 ثلاث مبادرات إنسانية دوت أرجاؤها وترددت أصداؤها في مختلف أرجاء المعمورة، شملت دبي العطاء «بهدف تحسين فرص حصول الأطفال في البلدان النامية على التعليم الأساسي السليم، واستفاد منها 7 ملايين طفل في 28 دولة نامية حول العالم. وأتبعها بمبادرة نور دبي للوقاية والعلاج من العمى وضعف البصر، واستفاد منها لغاية الآن أكثر 6,193,632 شخصاً، وأتبعها بمبادرة «نبضات»، بهدف تقديم العلاج المجاني للأطفال الذين يولدون بتشوهات قلبية خلقية، واستفاد منها لغاية الآن ما يزيد على 320 طفلاً، من أكثر من 13 دولة، تماشياً مع فلسفة سموه أن القائد يزداد شرفاً ومكانة بمقدار منفعته للناس، وليس بمقدار منصبه «ويكفي القادة شرفاً أن قدر الله لهم خدمة الناس ومنفعة البلاد والعباد، وخير الناس أنفعهم للناس»، عسى أن تتحرك المياه الراكدة في دواليب المنظمات الدولية وترق القلوب في الدول الغنية».
أعمى كل 5 ثوانٍ والمشاعل الإماراتية تنير الطرقات
75 مليوناً يفقدون بصرهم في العالم بحلول 2020
بيتر لينتش رئيس نادي «لوينز» يذهب لتحديد أبعاد مشكلة الفقر المدمرة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، بإشارته إلى أن هناك 12 مليون شخص يصابون بالعمى كل دقيقة حول العالم، أي بمعدل شخص واحد كل خمس ثوان، رغم أن إمكانية تجنب العمى تصل إلى 80 % بفضل التقدم الطبي والوقاية أو العلاج القادر على إعادة البصر. ويحذر لينتش من أن عدم اتخاذ الدول الغنية والمنظمات المعنية التدابير الوقائية، يصب في ازدياد عدد المصابين بالعمى في عام 2020 بين 45 إلى 75 مليون إنسان.
بحجم هذه التحديات، كانت المبادرات التاريخية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لإغاثة الملهوف، ومد يد العون لهؤلاء الفقراء والمحتاجين، إذ لعبت «نور دبي» دوراً محورياً في مكافحة العمى حول العالم، وبذلت جهوداً جبارة لتخفيض عدد المصابين، إلى جانب الحد من حالات العمى القابلة للعلاج، والتي تتفاقم أعدادها كل عام.
الدكتورة منال تريم المدير التنفيذي لمؤسسة «نور دبي»، تعود بذاكرتها إلى الوراء، لتتذكر مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إبان إطلاق المبادرة، «لن أقف بعد اليوم مكتوف اليدين أمام هذا الوضع الإنساني المؤلم، بل سنقف معهم وإلى جانبهم ونتبنى قضيتهم، لأنهم يتألمون وينتظرون الفرج، ويحلمون بيد تخفف عنهم عذاباتهم وتعيد الأمل إلى نفوسهم، ومبادرة «نور دبي» هي هدية من دولة وأبناء الإمارات، إلى إخوانهم في الإنسانية ممن هم في أشد الحاجة لمن يمنحهم الأمل بالحفاظ على نعمة البصر، ويقدم لهم العون والمساعدة».
أم عبد الله: 60 عاماً في الظلام
«البيان» التي رافقت الفرق الطبية لـ «نور دبي» في بعض مخيماتها الكشفية في بعض الدول، عاشت تفاصل بعض الحالات المؤثرة التي ستبقى راسخة في الذاكرة. في منطقة الحديدة في اليمن، فقدت أم عبد الله المعمرة البالغة من العمر 120 عاماً قدرتها على البصر منذ 60 عاماً، وبقيت طيلة السنوات هذه لا تبصر سوى العتمة، تحن لرؤية ومشاهدة أحفادها، تجلسهم على ركبتيها الواهنتين ولا تفرق بين عبود ومحمود سوى بالصوت والوزن، ولا تلوي سوى على أمنية دنيوية وحيدة: أن ترى فلذات كبدها ولو للحظات.
هرول الأحفاد لدى سماعهم نبأ المخيم الكشفي لمبادرة «نور دبي»، ليكتشفوا مفاجأة العمر: علاج الجدة لا يتطلب سوى دقائق قليلة، لأنها مصابة بالمياه البيضاء التي تصيب العين (الكاتركت)، وهي عبارة عن عتامة تحدث لعدسة العين تمنع دخول الضوء جزئياً أو كلياً، وذلك بحسب درجة العتامة، وعندما تبلغ هذه العتامة حدها الأقصى يفقد الشخص القدرة على تمييز ما يراه، وهو ما حدث مع الجدة أم عبد الله.
ما إن دلفنا منزل أحد أحفادها بعد ثلاثة أيام من العملية، حتى رفعت الجدة أكفها إلى السماء تدعو من صميم قلبها لصاحب الأيادي البيضاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وأبنائه بطول العمر، وأن يبعد الله عنهم كل مكروه. وتقول بلهجتها اليمنية المحلية «60 عاماً أمضيتها في الظلام، لا أفرق بين ليل ونهار، كنت أدعو ربي بلا انقطاع أن يمكنني فقط من رؤية أحفادي وحفيداتي، وها هو المولى يحقق لي مرادي بفضله عز وجل، ثم فضل محمد بن راشد».
إبراهيم: عانق حلمه أخيراً
إبراهيم طفل من النيجر في الخامسة من العمر، كانت حالته أشد قسوة ومرارة، فقد القدرة على البصر منذ أكثر من عامين، ما منعه من الذهاب إلى المدرسة وتحقيق حلمه في القراءة والكتابة، اللذين بدأ بتعلمهما قبل فقدانه لنعمة البصر.
ترافقت مأساة فقدانه البصر بسوء حالة أسرته المالية، ما اضطر شقيقه للتوقف عن العمل مع والديه، ليتمكن من رعايته ومرافقته، في ظل عدم قدرة الأخير على الإبصار، وهو ما زاد وضع الأسرة فاقة، فباتوا بالكاد يؤمنون قوت يومهم.
إبراهيم الآن على مقاعد الدراسة بعدما استرد نظره، ومكنته «نور دبي» من معانقة حلمه بالقراءة والكتابة، بينما عاد شقيقه إلى العمل لتحسين وضع العائلة المعيشي.
عائشة.. انتشال من زاوية موحشة
الباكستانية عائشة كانت تعيل أسرة من تسعة أفراد صغار، بعملها في التطريز والحياكة. بدأت عائشة تشعر بأن نظرها يخفت رويداً رويداً، لكن ضيق الحال جعلها تتحمل وتكابر، إلى أن انتهت ضريرة عاجزة في إحدى زوايا البيت.
العائلة لم تجد، ولسنوات طويلة، سوى تبرعات وصدقات المحسنين سبيلاً للعيش، وكان أشقاؤها في غالب الأيام لا يقتاتون إلا على وجبة واحدة، ورغم ذلك، لم تفقد عائشة الأمل، وكان لديها - كما تقول - إحساس بأن الله سيقف معها، وهو ما تحقق حين سخر المولى «نور دبي» لمد يد العون واستعادة بصرها.
«نور» الأمل.. يطور المجتمعات
الدكتور عبد العزيز الراجحي رئيس مجلس الشرق الأوسط الإفريقي لطب العيون (مياكو)، عضو مجلس إدارة الجمعية السعودية لطب العيون، يلفت الانتباه إلى أن انتشار العمى والإعاقات البصرية يمثل مشكلة حقيقية وتحدياً يعيق التنمية، وهناك دلائل متزايدة على أن أمراض العيون مرتفعة حقاً.
مبادرة «نور دبي» قدمت الأمل للملايين، وساهمت في تحسين أوضاعهم المعيشية، وتالياً ساهمت في تطوير تلك المجتمعات، ما انعكس إيجاباً على اقتصاد الدول المستفيدة من المبادرة، وبالتالي نأمل المزيد من هذه المبادرات لإنجاح برنامج «الرؤية 20/20».
يضيف الراجحي: الجهود التي يبذلها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لا مثيل لها، ولا يمكننا مقارنته بأي قائد آخر، ولا الإمارات بأي دولة في العالم، وتحديداً في هذا المجال الإنساني.«نور دبي» مكنت ملايين الأشخاص حول العالم من استعادة بصرهم، الأمر الذي يدل على أهمية الوعد الذي قطعه سموه لمكافحة العمى، وسنعمل جميعاً على مواصلة نهجه، سعياً نحو تحقيق رؤيته، والتزامه بإنجاز الأهداف الإنسانية التي وضعت لهذه المبادرة.
«نبضات» تضخ الحياة في 360 قلباً مشوهاً
يولدون بتشوهات قلبية خلقية ويرحلون بصمت بلا ذكريات، خلا معاناة الحمل وآلامه، بعضهم لعدم إمكان التشخيص المبكر للعلل والأمراض، والبعض الآخر لقلة الإمكانات المادية ودقة العمليات، إذ إن كلفة عملية القلب المفتوح تصل في دول كألمانيا وإيطاليا إلى 150 ألف درهم، بينما في الإمارات 35 ألف درهم، وهي مبالغ تفوق مقدرة الكثيرين.
صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وجه في عام 2007 «مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للأعمال الخيرية والإنسانية»، و«هيئة الصحة في دبي»، بإطلاق مبادرة لعلاج قلوب الأطفال من التشوهات الخلقية مجاناً للمواطنين والمقيمين في الإمارات من مختلف الجنسيات، بل واستقطاب أفضل الخبرات العالمية لإنقاذ هؤلاء الأطفال من موت محقق يتربص بهم. العمليات التي تم إجراؤها بالتعاون مع فريق طبي إيطالي يزور دبي أربع مرات في السنة، هي لأطفال لا تزيد أعمارهم على أشهر قليلة، وتراوحت بين قسطرة وقسطرة علاجية وجراحات قلب مفتوح، لعلاج تشوهات قلبية، والتشوهات الحادة في القلب، مثل الثقوب القلبية وتشوه (رباعية فالو)، وعدم اكتمال الصمامات، وهي التي استفاد منها لغاية الآن 360 طفلاً من عشر دول عربية وآسيوية، منها الأردن واليمن ومصر والبحرين والهند وباكستان وفلسطين وسلطنة عمان.
«انطلقنا في دبي، ونتطلع قدماً لأن نأخذ دورنا في مناطق أخرى من العالم، بعد تحويلها إلى مبادرة عالمية، ونعول على (نبضات) في تحقيق هذه الرؤية الإنسانية الطموحة، ومد يد العون والمساعدة لكل طفل من أطفال العالم»، يقول الدكتور عبيد الجاسم رئيس الطاقم الطبي المشرف على مبادرة «نبضات»، رئيس قسم جراحة القلب والصدر في هيئة الصحة في دبي.
العمى النهري
حجم مشكلة العمى يتحول إلى كارثة كبرى، إذا ما علمنا أن مع معظم أمراض العيون في قارتي آسيا وإفريقيا، هي أمراض قابلة للعلاج، طبقاً للدكتورة منال تريم، ففي إفريقيا، وتحديداً في إثيوبيا ومالي والكاميرون وأوغندا، يعاني أكثر من 18 مليون من العمى النهري، فضلاً عن 125 مليون شخص مهددين بالإصابة به في نفس القارة السمراء، وعلاجه لا يحتاج سوى لعقار «آيفرميكتين» القادر على القضاء على اليرقات الطفيلية المسببة للمرض، و«قد سعينا للسيطرة على المرض ومعالجة الحالات المصابة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية من خلال توفير العقار».
وفي بنغلاديش، هناك 80 ألف شخص مهددون بالإعاقة البصرية، بينهم 40 ألفاً من الأطفال دون 15 سنة. وفي باكستان تصل أعداد حالات الإصابة بالعمى إلى 1.5 مليون شخص، وبما نسبته 4 ٪ من إجمالي نسب العمى في العالم، وإذا ما عرفنا نوعية تلك الأمراض وسهولة علاجها، ندرك حجم المأساة التي يمكن تجنبها من خلال مد يد العون والمساندة وتوفير العلاج لهؤلاء المرضى، قبل أن ينتهوا إلى ملاجئ العجزة المكتظة.
وفي محاولة منها لتذكير العالم، تقول الدكتورة منال تريم: تعد المياه البيضاء المسبب الرئيس للعمى في باكستان بمعدل 9 ٪، تليها الجلاكوما بنسبة 7 ٪. حيث وصلت نسبة المصابين بها، والذين تستدعي حالتهم العلاج الجراحي إلى 65 ٪.
رسالة إنسانية تحقق حلم الفقراء
الفقر والعجز وجهان لمأساة واحدة، والأمة الجائعة لا يمكن أن تفكر بالإنتاجية والإبداع. هذا ما لمسناه خلال جولاتنا مع فريق «دبي العطاء» في بعض الدول. شاهدنا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال أحد: أطفال محرومون من أبسط حقوقهم الإنسانية، شباب عاطل من العمل بسبب توقف عجلة الحياة، ومسنون نحلت أجسادهم ونخرتها الأمراض. مناظر تقشعر لها الأبدان ويندى لها الجبين، وأقل ما يقال إنها لعنة ووصمة عار في جبين العالم المتحضر.
الأمية في بنغلاديش وأوغندا ومالي والهند وسيراليون وغيرها من دول العالم الثالث، تنهش في جسد المجتمعات، والبطالة جرفت الشباب إلى احتراف ما يتنافى مع أخلاقهم وأعرافهم، والموت يتربص بالمسنين المتهالكين من الجوع والأمراض، عل فيه رحمة أكثر من قساوة الدنيا. النداءات المتكررة لجمعيات الإغاثة والمنظمات الدولية، ارتطمت بآذان صماء، والمطالبات الخطية لا تزال حبيسة الأدراج، لكن مبادرات الضمير الفردي سعت إلى موازنة الصورة، وفي مقدمها «دبي العطاء» إيماناً من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بأن التعليم هو أقصر الطرق لمحاربة الأمية والفقر.
4 ملايين طفل يحلمون بالمدرسة
حط فريق «دبي العطاء» الرحال في بنغلايش، وتحديداً في منطقة تدعى «مزرعة راشدبور للشاي».
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن نسبة الأطفال تصل إلى نحو 45 في المئة من إجمالي عدد السكان، يعيش 46 في المئة منهم تحت الخط الوطني الرسمي للفقر، فضلاً عن أن ربع هذه النسبة يعيش في فقر شديد. وهناك ما يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة ملايين طفل، من إجمالي عدد الأطفال ممن هم في سن التعليم الأساسي، والبالغ 19 مليون طفل، لا يحصلون على التعليم الأساسي، ومعدلات الإلمام بالقراءة والكتابة والتحاق الأطفال بالمدارس والاستمرار فيها ما زالت منخفضة داخل المجتمعات المحلية المهمشة، خاصة بالنسبة للفتيات. بروميلا بوري، عاملة تبلغ من العمر 80 عاماً، وتعمل في «مزرعة راشدبور للشاي»، روت لنا معاناتها: لم أنل أي قسط من التعليم، لكن حفيدتي كانت أسعد حظاً مني، والتحقت بالمدرسة.
وكم أشعر بالسعادة وأنا أراها ذاهبة إليها، وأتخيل أنني لو كنت محظوظة مثلها والتحقت بالمدرسة، لكانت حياتي مختلفة الآن. تضيف «بدأنا العمل هنا منذ فترة طويلة، إلا أن ظروفنا لم تتحسن كثيراً. والعديد منا يعيش على الكفاف، اعتماداً على حصص الإعاشة التي تقدمها لنا إدارة المزرعة». ورغم أن إدارة المزرعة أنشأت مدرسة ابتدائية تستوعب 188 طفلاً من أطفال العمال، إلا أن ما يزيد على 100 طفل لم يلتحقوا يوماً بالمدرسة، إذ إن أقرب مدرسة ابتدائية حكومية تبعد عن المزرعة مسافة تزيد على كيلو مترين.«دبي العطاء» أبرمت بعد الزيارة شراكة مع «منظمة إنقاذ الطفل»، لإحداث تغييرات إيجابية في حياة الأطفال المحرومين.
قرية الإعاقات تستغيث
من بنغلاديش إلى سيراليون، وتحديداً في قرية ماباب في منطقة بومبالي، موطن أشخاص من ذوي الإعاقات، يناضلون بشكل يومي، ليس بسبب الإعاقة فحسب، بل لتغيير نظرة المجتمع لهم كمنبوذين، وما يزيد الطين بلة، عدم وجود مدرسة للتعليم الأساسي في هذه القرية، حيث يتعين على الأطفال السير مسافة تتراوح ما بين 2 إلى 4 كيلومترات يومياً للوصول إلى أقرب مدرسة، وبالتالي فإن فرص الحصول على التعليم البعيد مع الإعاقة شبه معدومة.
سارعت «دبي العطاء» إلى بناء مدرسة في القرية، ملائمة للأطفال، ومجهزة بمرافق صحية، وذلك ضمن برنامج توفير «الماء والمصارف الصحية والنظافة في المدارس» في بومبالي ومقاطعات المنطقة الغربية في سيراليون. «تقدمنا في السابق بالعديد من المطالبات والمناشدات لإنشاء مدرسة قريبة، إلا أن هذه المناشدات لم تجد نفعاً، واستمرت معاناتنا حتى جاء الفرج من قبل حكومة دبي، ما أتاح لأطفال القرية الحصول على التعليم الأساسي من دون الحاجة للسير لمسافات طويلة، إضافة إلى توفير ماء الشرب النقي، ومرافق الصرف الصحي التي تقيهم الأمراض المعدية الناجمة عن المياه الملوثة» قال علي كوروما، أحد سكان القرية.
طبعاً الصورة أبلغ من الكلام، لكن المناظر والمشاهد التي يراها الباحث في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في سيراليون وبنغلاديش والبوسنة والهرسك وكمبوديا وتشاد وجزر القُمر ومالي وموريتانيا ونيبال والنيجر، من الفقر وانعدام التعليم والأمراض تشكل إحراجاً للدول المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدل والمساواة بين البشر.
شاب قبل أوانه لهول ما رأى
طارق القرق، الرئيس التنفيذي لـ «دبي العطاء»، الذي شاب قبل أوانه لهول ما رأى، يشعر بالفخر لانتمائه للأمارات التي هبت لإغاثة الملهوف ومساعدة الفقراء في البلدان التي تعاني من فجوة حادة في التعليم الأساسي، حيث تنفذ برامج تنموية تستهدف معالجة الأسباب التي تعيق حصول الأطفال على التعليم الأساسي السليم. وتنفذ المؤسسة برامجها عبر أربعة مجالات رئيسة تتعلق بالتعليم الأساسي، هي: البنية التحتية، الصحة والتغذية، الماء والمرافق الصحية والنظافة الصحية، وجودة التعليم، وما زلنا في بداية الطريق، وأمامنا رحلة طويلة من العمل الدؤوب بسبب هول الكارثة، وغياب الدعم الكافي للمناطق المنكوبة.
«دبي العطاء» استطاعت خلال خمس سنوات من إطلاقها مساعدة أكثر من 7 ملايين مستفيد في 28 بلداً في قارتي آسيا وإفريقيا، حيث تم بناء وتجديد أكثر من ألف و500 مدرسة وفصل دراسي، وتوفير ما يزيد على ألف بئر ماء، ومصادر صالحة للشرب، وبناء أكثر من ثلاثة آلاف مرفق صحي غير مختلط للجنسين داخل المدارس، إضافة لتوفير وجبات غذائية صحية لأكثر من 490 ألف طفل يومياً داخل المدارس، ووقاية أكثر من 1.5 مليون طفل من الإصابة بالديدان المعوية، من خلال نشاطاتها المعنية بالتخلص من الديدان، وتوزيع أكثر من مليوني كتاب باللغات المحلية، وتأسيس أكثر من ستة آلاف و600 مجلس لأولياء أمور الطلبة والمعلمين، وتدريب ما يزيد على 23 ألف معلم ومعلمة.
التغذية المدرسية
لم تغفل «دبي العطاء» أساس العملية التعليمية، وهو الغذاء السليم، فأطلقت برنامج التغذية المدرسية بالمنتجات المحلية في غانا لمدة أربع سنوات، للمساهمة في تحسين مستوى التعليم والصحة والتغذية لأكثر من 320 ألف طفل في سن التعليم الأساسي، إضافة إلى تحسين معيشة دخل أكثر من 80 ألف أسرة ريفية بنحو 10 ملايين درهم (2.7 مليون دولار)، بالتعاون مع مؤسسة الشراكة من أجل نماء الطفل، وبدعم من برنامج التغذية المدرسية في غانا لخفض أعداد الفقراء، ويشكل برنامج التغذية المدرسية بالمنتجات المحلية بديلاً مستداماً ومتكاملاً لتوفير الوجبات في المدراس، بحيث يؤمن الوجبات المغذية للأطفال، ويعزز النشاط الاقتصادي في المناطق النائية.
كما أطلقت بالتعاون مع التحالف العالمي لتحسين التغذية، برنامجاً تجريبياً للتغذية المدرسية بدعم من حكومة بنغلاديش، لتحسين مستوى تعليم وتغذية أطفال الأسر الفقيرة الذين تتراوح أعمارهم ما بين 5 إلى 11 عاماً داخل ما يقارب 45 مدرسة في العاصمة دكا ومقاطعة ممينسينج.
كما تقدم المعونات اللازمة، وفي مقدمها وجبات مدرسية لـ 25 ألف طالب صومالي لاجئ، بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي. ويعيش هؤلاء اللاجئون في مخيمات «دولو أدو» التي أقامتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إثيوبيا، واستقبلت خلال النصف الثاني من عام 2012 ما يزيد على 100 ألف لاجئ صومالي من المتضررين جراء أزمة الغذاء التي ضربت الصومال عام 2011، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها «الأسوأ خلال 25 عاماً». وتبلغ الكلفة الإجمالية للبرنامج، الذي سيتم تمويله من قبل «دبي العطاء»، وتبرعات مجتمع الإمارات لحملة «وجبة من أجل الصومال» العام الماضي مليون درهم إماراتي (ما يعادل 270 ألف دولار أميركي).
«دبي العطاء» فرضت نفسها بنبل كبير في المشهد الإنساني العالمي، وأثبتت كفاءة متفردة في التعامل مع أصعب وأحلك الظروف، واختيار دبي العطاء للانضمام إلى المبادرة العالمية التي أطلقها أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، تحت عنوان «التعليم أولاً»، يعد إنجازاً مهماً، وشهادة على نجاح المبادرة في وضع الإجراءات التداخلية التي تشدد على جودة التعليم، وتنمية الطفولة المبكرة.
خطة للذهاب إلى بلدانهم حال تعذر الوصول اليهم
أشرف ماجد (عامان)، وأحمد وسيم (ستة أعوام) من اليمن، عانيا منذ الطفولة تشوهات قلبية، حال ضيق الحال وعدم توفر الإمكانات العلاجية، دون مواصلة الحياة اعتيادياً، حالهما في ذلك حال مئات الأطفال ممن يتربصهم الموت كل لحظة. لم يقنط والداهما من رحمة الله، بل كان لديهم شعور وإحساس بأن الفرج آت عما قريب، وبالفعل، فور تحويل «نبضات» إلى مبادرة عالمية اتصل بهما أقارب لهما من مدينة أبو ظبي، فتواصلت عائلتا الطفلين مع المبادرة، وخلال أقل من 48 ساعة، استقلا أول طائرة إلى مدينة دبي، ومباشرة إلى مستشفى دبي.
في اليوم الثاني من الوصول، أجريت لأحمد عملية قلب مفتوح لإزالة غشاء يمنع تدفق الدم لباقي أنحاء الجسم، وعاد ليمارس حياته الطبيعية كباقي أقرانه، بعدما كان محروماً من اللعب أو حتى الذهاب إلى المدرسة «بسبب عدم قدرتنا على إجراء العملية في اليمن، فوالده يعمل في بقالة، وبالكاد تتوفر لنا الحاجات الأساسية»، قالت والدته أم أحمد، ودموع الفرح تتراقص في عينيها، وتتمتم بدعوات العمر الطويل لصاحب المبادرة.
أما والدة الطفل أشرف، فتقول «لاحظنا ظهور أعراض مرضية شديدة عليه، منها توقف نموه وإصابته بهزال، وضيق في التنفس، ومنعنا ضيق الحال من إجراء العملية الجراحية له في اليمن، وبمجرد سماعنا بمبادرة نبضات، تواصلنا مع المسؤولين، وخلال 48 ساعة، تم إرسال التأشيرات وتذاكر السفر والإقامة، وتم في اليوم التالي من وصولنا إجراء عملية قلب مفتوح عاجلة له، استمرت ساعتين، وخرج بعدها من المستشفى بقلب جديد، يمكنه من الآن فصاعداً اللعب مع أقرانه والذهاب إلى المدرسة. لن ننسى هذه اللفتة الكريمة ما دام في الجسم قلب ينبض، وعرق تسري فيه الدماء».
يقول الدكتور عبيد الجاسم رئيس مبادرة «نبضات» واستشاري أمراض القلب في هيئة الصحة في دبي: هناك أطفال تحول أوضاعهم الصحية دون الوصول إلينا في دبي، ولكن سنصل لهؤلاء الأطفال في دولهم، وهناك خطة مع بداية العام المقبل لزيارة ثلاث دول، هي اليمن ومصر والسودان، إضافة إلى ورش العمل التي يتم تنظيمها في دبي أربع مرات سنوياً، ونأمل في تقديم العلاج المجاني لكل أطفال العالم، لأن نبضات تحمل رسالة حب وسلام لجميع أطفال العالم.